أريد أن أترك أمي
♦ الملخص:
فتاة لم تعرف إلا أمها؛ فهي عائلتها الصغيرة، تشكو أنها لم تجد منها إلا الصراخ والتعنيف منذ كانت صغيرة، لم تهتم بها قط، تعرضت للتحرش من قِبل أقربائها، ولم تلحظ ذلك، ولما أخبرتها لم تحرك ساكنًا، ساءت صحتها النفسية والبدنية، ولم تلتفت إليها، وهي تسأل: هل أنا آثمة إن تركتها؟
♦ التفاصيل:
السلام عليكم.
أنا فتاة وُلِدت في عائلة صغيرة جدًّا، مقطوعة عن العالم، عالمي الوحيد أمي، وحبي الأول أمي، لم أعرف غيرها، أملي فيها كان كبيرًا، وكانت أماني الوحيد، لكنها أبدلت أمني خوفًا، وأملي خذلانًا، لا أذكر موقفًا صعبًا وقفته معي إلا في المرحلة المتوسطة، وفي تعليمي الدين، لم أجِدْ منها إلا الضرب والسخط والصراخ؛ ما أصابني بعجز في الحديث والتخاطب، وأثر فيَّ نفسيًّا وسلوكيًّا، لم تهتم يومًا بي، تعرضت للتحرش من قِبل أقاربي؛ لانشغالها بضيافتهم، ولم تدرك أمي ذلك، وضحيتُ بسبع سنوات أذهبت بنضارة نفسي؛ كي لا أصدمها في أقربائها، ولما أخبرتها كي تشفق عليَّ، لم تتحرك مشاعرها نحوي، بل زاد الأمر سوءًا، كانت المعاناة تأخذ من صحتي وجسدي؛ فضعُف بدني، وتساقط شعري، وكانت ترى كل ذلك، ولا تحرك ساكنًا، وبعد استنزاف المحاولات في الحديث معها، وتنبيهها لكيفية التعامل معي، أدركت أن استمراري في البقاء معها تحت سقف واحد لن يفيدني لا في ديني، ولا في دنياي، ولا في نفسي، وليس ذلك اتباعًا للهوى، ولا رغبة في عدم تحمل المسؤولية، لكني أريد أن أنجُوَ بما بقيَ من ذاتي وصحتي، لقد كنت أنا – بعد الله – من علَّمت نفسي التخاطب، أنا من ساندت نفسي للنهوض بعد كل سقوط، أنا من كنت أعالج آلامي، أنا من علَّمت نفسي، وإن لم أنجح؛ فلأن ما أبنيه تهدمه أمي، فما الذي يُبقيني معها؟ لم أعُد أستطيع برها، أصبحت تعابير وجهي تنضح بالسوء في التعامل معها، سؤالي: هل أنا آثمة إن تركت البيت بعيدًا عنها ولو قليلًا؟ أرجو جوابًا سليمًا؛ لأن الأمر محتوم.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمي الأمين، يتيم الوالدين، مَن علَّمه الله وربَّاه، ووهبه الصدق واصطفاه للنبوة صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد ابنتي الغالية:
فأراكِ تحمِّلين نفسكِ فوق طاقتها، وتحمِّلين أمكِ عواقب كل سوء وقع لكِ، وكأنها إله معه عصا سحرية سيفعل كل شيء، ثقي أنها إنسان ضعيف مثلكِ، يريد كل شيء طيبًا لنفسه ولأولاده، ولكن الحياة تمنح وتمنع.
بداية أحتاج أتحدث معكِ بعيدًا عن سؤالكِ الذي هو: (هل أنا آثمة إن تركت البيت بعيدًا عنها ولو قليلًا؟)، لا يا غاليتي، لستِ آثمة، بل أنا من كنت سأنصحكِ بهذا، ولكن تذهبين إلى بيت آمِنٍ ثقة مثل بيت جدكِ أو خالكِ أو عمكِ، وتكون الظروف مهيَّأة لكِ أن تعيشي بأمان، بلا تحرش ولا مضايقات، وأشد ما أنصحكِ به الذهاب لمكةَ شرَّفها الله، اعتمري وأشبعي النظر إلى الكعبة، وأطيلي السجود خلف مقام إبراهيم، وحدِّثي ربكِ بكل آمالكِ، وارمي بهمومكِ بين يديه، ستختلف نفسيتكِ جدًّا جدًّا، وسترين الدنيا بعيون أخرى ثم خذي سيارة للطائف، تمتعي بوردها الفوَّاح، وشجرها الخلَّاب، وجوِّها العليل، ثم عودي لبيتكِ آمنة قريرة العين، أو لبيت جدكِ، أكملي فيه شهرًا، ثم عودي للوالدة، عندما تبتعدين عنها سترين أنها ليست محور الكون، وليس كلامها قرآنًا، هي إنسانة ضعيفة مثلكِ، وستجدين أن بِرَّها شيء يسير، عندما تخرجين من دائرتها ستشفقين عليها.
نعود لكِ أنتِ، فأنتِ – تبارك الله – فتاة لبِقة متحدثة، رسالتكِ تكاد تكون من الأدب الإنساني الجميل لولا انفعالكِ، لا ينقصكِ شيء بفضل الله، لا تدققي فيمن علَّمكِ، هل علمتِ نفسكِ أم أمكِ علمتكِ؟ المهم أن الله منَّ عليكِ وأصبحتِ كأفضل بنات سنكِ.
أنتِ لا تحتاجين إلى أمٍّ تعلمكِ التخاطب والمظهر اللائق، والحديث المنمَّق مع الناس، أنتِ تحتاجين صحبة صالحة تخرجين معها، وتتعلمين معها، وتشاركينها أحلامها، واهتمامات عمركِ، وليس اهتمامات أمكِ، ابحثي عن هذه الصحبة بين أخواتكِ أولًا، ثم أرحامكِ، ثم جيرانكِ وبنات المسجد، أو سجِّلي في أي دراسة شرعية أو دنيوية، كوني لنفسكِ محيطًا من البشر جديدًا ستتغير حياتكِ للأفضل بإذن الله، أضعف الإيمان حفِّظي صغار الحي القرآن حسبة لله.
ابدئي شاركي الأهل مناسباتهم وحفلاتهم، واظهري كبنات عمركِ، واسمعي الناس أكثر مما تتحدثين، أنتِ كبِرتِ، وليس بالضرورة أن تكون أمكِ محور حياتكِ، قريبًا بإذن الله يرزقكِ الله بمن يهتم بكِ، فأنت لا تحتاجين إلا لاهتمامٍ من قلبٍ حنون يربِّت على كتفكِ، بإذن الله تُرزَقين الزوج الصالح الذي يروي مشاعركِ، ويعينكِ على أمر دينكِ ودنياكِ.
كما علَّمتِ نفسكِ، وقفزتِ بها من آلام مدمِّرة بتوفيق الله وفضله، اقفزي أيضًا من هذه المحنة ولا تخافي من مواجهة الناس، فهم ضعفاء مثلكِ، مرتبكون مثلكِ، يحتاجون الرعاية أكثر منكِ، لكنهم تعلَّموا كيف يخفون مشاعرهم الحقيقية، وأنتِ ما زلتِ نقية لا تظهرين إلا ما في قلبكِ فقط، تدربي على المخالطة والثقة بالنفس، واقنعي نفسكِ أنه لا يوجد أحد أفضل منكِ، كلنا سوف نسير على صراط واحد، كلنا لدينا نقص مؤلم في حياتنا، لكننا نتعايش؛ لأنها دنيا، والمرجع لله سريع مهما طال، إن كنت تعانين من قلة الحب والاهتمام، وعدم التوافق مع الوالدة، فغيركِ يعاني أمراض البدن، وبعضهم أمراض القلوب من غلٍّ وحسد، والكثير يعاني الحرمان من شيء ما.
اصبري وصابري وجاهدي في هذه الدنيا، فالكل فيها سواء، لا يتميز فيها أحد إلا الذاكرين لله كثيرًا، والذاكرات، فكوني منهم، عكس ذلك لا تكترثي لشيء، ما تحقق فاحمدي الله عليه، وما لم يتحقق فجاهدي فيه، ثم ارضي بما قسم الله لكِ، فالحب من الرزق، والعقل من الرزق والعلم والحكمة، فما كُتب لكِ فسيكون، وما لم يكتب فلن يكون، حتى لو كانت أمكِ من ملائكة السماء، مهما قصرت، فالأمر لله منه وإليه، وما نحن إلا سبب.
هيا استعدي للعمرة ولرحلة طويلة نوعًا ما لبيت جدكِ، ثم عودي لأمكِ، وأنتِ ترينها امرأة ضعيفة تقدم بها العمر، اقبلي منها القليل المتاح، وتجنَّبي الصدام معها قدر المستطاع، وأحْسِني إليها بالقدر الذي لا يحزنكِ، وستجدين بردًا وسلامًا على قلبكِ بإذن الله.
أبْدَلَ اللهُ هَمَّكِ فرجًا، وحزنكِ فرحًا، وسخر لكِ الصالحين.
تعليقات الفيس بوك